خيمة البدوي أم قصر الملك: هل العمارة هي المقياس الحقيقي للحضارة؟

يهاجمك العربفوبيّين دائماً بأنّ العرب ما كانت لهم حضارة قبل الإسلام، محتجّين بأنّ شبه جزيرة العرب تخلو من آثار عمرانية تسبق حِقْبَة الحكم الروماني لبعض بلاد العرب، ويقولون أنّ شعباً بجمل وخيمة لا ينتج حضارة! ومع أنّني أرفض هذا البيان بالمطلق، لكثرة الآثار العمرانية القديمة في جزيرة العرب. لكن، أحبّ اليوم أن أناقش هذه الفكرة الغبيّة التي تربط “الحضارة” بـ”العمارة”. وتسعدني مساهمتك في هذا النقاش في التعليقات.

العمارة والآثار هما من أبرز العناصر التي تُظهر تاريخ وحضارة المجتمعات المختلفة عبر العصور، ويمكن للنقاش حول ما إذا كانتا تمثّلان مظهراً من مظاهر التقدّم الحضاري أن يتّخذ أبعاداً متعدّدة، تشمل الجوانب الفنية والاجتماعية والاقتصادية والتقنية.

في وجهة النظر الأولى: العمارة كمؤشر على التقدم الحضاري. يرى أنصار هذا الرأي أنّ العمارة تعبّر عن:

  • الابتكار والإبداع: حيث تُظهر الأساليب المعمارية القدرة الإبداعية للمجتمعات في توظيف الموارد المتاحة وتسخيرها لخدمة احتياجاتها.
  • التطوّر التقني: إذ يتطلّب بناء الهياكل الضخمة والمعقّدة تطوير تقنيّات ومواد بناء جديدة، ممّا يدل على مستوى معيّن من التقدّم التكنولوجي.
  • الازدهار الاقتصادي: فإنشاء المباني الضخمة والفخمة يستلزم موارد مالية هائلة، مما يُظهر الاستقرار الاقتصادي.
  • التنظيم الاجتماعي: إذ تدلّ القدرة على إدارة وتنفيذ مشروعات عمرانية كبرى على مستوى معيّن من التطوّر الإداري والحكومي.

في وجهة النظر الثانية: العمارة ليست المؤشّر الوحيد للتقدّم. يرى أصحاب هذا الرأي علامات التقدّم الحضاري في:

  • التقدّم الفكري والثقافي: قد يرتبط التقدّم الحضاري بدرجة أكبر بالفلسفة والآداب والعلوم والفنون. وهذه يقدر عليها رحّال في خيمة.
  • التطوّر الأخلاقي والقانوني: حيث إنّ القوانين والأعراف الأخلاقية المتقدّمة قد تُظهر تطوراً حضارياً أكثر من المنشآت. وهذه يقدر عليها رحّال في خيمة.
  • الاستدامة البيئية: فالحضارات التي تعايشت مع البيئة بشكل مستدام قد تعدّ أكثر تقدّماً من تلك التي خلّفت آثاراً عمرانية أضرّت بالبيئة. وهذه يتفوّق فيها رحّال في خيمة.
  • التقدّم الاجتماعي: حيث يمكن قياس التقدّم الحضاري بواسطة مدى تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة والحريّات. وهذه يقدر عليها رحّال في خيمة.

بالخلاصة:

تُعدّ العمارة والآثار عناصر بالغة الأهمّية لفهم التاريخ البشري وتطوّر الحضارات، إلّا أنّها مجرّد جانب واحد من جوانب عدّة؛ تشكّل معادلة التقدّم الحضاري. فهذا التقدّم مفهوم شامل ومتعدّد الأبعاد، يمكن قياسه بمعايير مختلفة، منها التقنيّة والاقتصاد والمجتمع والثقافة والفكر والأخلاق. فالكثير من “حضارات” اليوم تستورد قدرات غيرها لإنشاء العمارات العملاقة والمشاريع العمرانية الضخمة، غير أنّها ليست فعلاً من منجزاتها، ولو أنّها باقية آثار في أرضها… كما فعلت روما قديماً حين استوردت معمارياً عربياً من دمشق لإعادة تصميم المدينة، ولم تزل تفخر إلى اليوم بأحد أعظم منجزاته؛ الپانَثيون.

وعلى هذا، العمارة كمؤشّر على التقدّم قد تكون مظهراً مهمّاً، غير أنّها ليست كافية بمفردها، وينبغي النظر إلى التقدم الحضاري كمفهوم متعدّد الأوجه. فالمجتمعات التي تحقّق التوازن بين الجوانب المادية والمعنوية، مع احترام البيئة وترسيخ العدالة، هي الأكثر تقدّماً بمعنى شامل. ويكمن التحدّي إذاً في تحقيق هذا التقدّم المستدام في كافة أبعاد الحضارة الإنسانية.

شخصياً، لا أعتقد أنّ العمارة والآثار العمرانية مؤشّر حقيقي على الحضارة في التاريخ الإنساني. إنّما الفلسفة هي أوّلاً أبرز الدلائل التي تساعدني على تقييم ثقافة لمنحها صفة حضارة. الفلسفة تعني وجود نقاش فكري حقيقي وتعني وجود هيكلية علمية وبدن واعي في مجتمع متقدّم، على المستوى الأخلاقي والمعرفي.

في الصورة إبريق سوري بديع من الخزف مصنوع على شكل ثور بإبداع رائع عمره حوالي ٣٤٠٠ سنة… والحقيقة أنّ هذا الإبريق صناعة جماعة كان اسمهم شعب المارليك أو المَرلِك أو المرلق، وهتي الجماعة كانت شعب بدوي رحّال باستمرار في المنطقة ما بين گيلان على ساحل البحر الطبري والساحل السوري عبر الجزيرة وإيلام. لكنّ هذا الشعب أبدع بصناعة الخزف ووصل إلى مستوى الخزف الصُّلْب الذي نعرفه اليوم… قبل أربع آلاف سنة… في الواقع المَرلِك أحد الأدلّة على أنّ الشعوب ليست بحاجة استقرار وعمارة لتطوير صناعات متطوّرة تبيعها للناس في كلّ مكان.

الإبريق ارتفاعه 21 سم وعرضه 25 سم. والقطعة سرقتها فرنسا من الساحل السوري ومعروضة في متحف اللّوڤر في پاريس.

التعليقات

أضف تعليق

اكتشاف المزيد من هويّتي عربيّة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

مواصلة القراءة