لمّا أخذ القشتاليّون إشبيلية عدّوا أنفسهم يحرّرون “بلادهم” من الحكم المغربي، بناء على الدعاية التي نشرتها البابويّة الرومانيّة، التي أطلقت صفة {حرب الاسترداد} على حروب الإبادة الجماعيّة لغير الكاثوليك في إبيريا. المسألة بالنسبة لهم ما كانت تحرير إبيريا من المسلمين، إنّما كانت بشكل أكثر خصوصيّة، تحرير الأندلس من المغاربة. لأنّ الأندلس وحتّى ذلك التاريخ كانت تحت سلطة دولة تعصمها مدينة مراكش في المغرب الموحّديّة.
أي أنّ القشتالي لم ينظر إلى غير الكاثوليكي على أنّه مواطن أندلسي، إنّما غسلت الپروپاگندا الرومانيّة دماغه حتّى اقتنع أن اليهوديّ والمسلم والأريوسي والكاثاري (وغيرهم) مستوطن من بقايا الاحتلال المغربي، وعليه الرحيل إلى المغرب. أي أنّ الفترة السابقة لحكم المغاربة للأندلس كانت ممسوحة تماماً من ذاكرة القشتالي لا يوجد فيها غير أساطير مذابح المغاربة في حقّ الكاثوليك.
كانت إشبيلية في القرن 13 أعظم حواضر الأندلس، وأمنعها حصوناً، وأكثرها سكاناً، ومركزاً لحكومة دولة مراكش الموحّديّة في الأندلس. وتوالت عليها حكومات متعدّدة؛ فتارّة تحت طاعة الموحّدين، وتارة أخرى تخلع طاعتهم، إلى أن ألقت بمقاليدها عن رضى واختيار إلى دولة قشتالة المسيحيّة، بسقوط دولة الموحّدين في المغرب ونشوء دولة المرينيّين سنة 1244.
خارطة لمملكة الأندلس (إشبيلية) من القرن 17 رسمها راسم الخرائط الهولاندي يان يانسونيّيس Jan Janssonius
سنة 1244 ولحماية استقلاله عن المرينيّين، قام حاكم إشبيلية {يحيى بن عبد الملك بن محمد الحافظ أبى بكر} المعروف باسم {أبو عمرو بن الجد} بتوقيع معاهدة مع قشتالة تنصّ على أن تكون مملكة إشبيلية (أي مملكة الأندلس) تابعة لمملكة قشتالة، وأن يحضر اجتماعات البلاط القشتالي لأنّه أصبح أحد ملوك المملكة القشتالية، وأن يؤدّي الجزية لملك قشتالة، وأن يقدّم له العون متى طلب إليه ذلك.
ثمّ استجلب {بن الجد} حرّاساً حفصيّين من تونس لحماية عرشه واستبداده بالحكم، وكان الحفصيّون قد تعاهدوا مع القشتاليّين كذلك. فثار الناس على {أبو عمرو بن الجد} بعد سنتين وخلعوه وأعلنوا بطلان المعاهدة، ما أغضب الملك القشتالي {فرناندو الثالث} فأمر قوّات غرناطة وقرطبة النصريّة بالزحف واستعادة السلطة في إشبيلية، ونجحت تلك القوّات بعد حصار سنة ونصف وأخضعت إشبيلية للعرش القشتالي، ونفي مسلميها ويهودها إلى غرناطة.
بعد دخول قوّات ملك قشتالة {فرناندو الثالث} إشبيلية نهاية سنة 1248، وكانت قوّات مسلمة بالمناسبة بقيادة حاكم غرناطة {الغالب بالله محمد بن يُوسُف بن محمد بن أحمد بن نصر بن الأحمر}، دخلت مملكة إشبيلية الحماية القشتالية وتغيّرت فيها السلطة إلى أيدي المسيحيّين ولو أنّ الحكومة بقيت مشتركة مسيحية-مسلمة حتّى القرن 15 وعهد طرد المورسكيّين. وبقيت الدولة على حالها ستّ قرون إلى أن قامت إسپانيا بحلّ مملكة إشبيلية سنة 1833 وبدأ من بعدها عهد الإفقار والقمع القومي.
لا يثير العرب مسألة الأندلس بكاء على مُلك إسلامي ضاع، إنّما في المسألة مظلمة إنسانية مسكوت عنها.
ماذا لو اعترفت إسپانيا القرن 13 بالمسلمين واليهود والعرب إحدى مكوّنات الشعب الإسپاني ولم تطرد العرب عن إبيريا بالقانون، حتى بعد قرنين من تحوّلهم إلى المسيحية؟
هذه جريمة إنسانية ارتكبتها إسپانيا في حق إحدى شعوب شبه الجزيرة الإبيرية، ومن الخطأ في حقّها أساساً أن يُضطر المسلمون واليهود أو العرب للاستعانة بقوات إمبراطوريّة ما للمحافظة على وجودهم في بيوتهم ومدنهم وأراضيهم…
عاش المسيحيّون 15 قرن في البلاد العربية الإسلامية ما اضطرّوا فيها مرّة إلى طلب الحماية من أيّ قوّة أجنبية، ولا اضطرّوا إلى حماية وجودهم بتكوين إمارات مستقلّة للمسيحيّين فقط. حتى حين حضر الصليبيون إلى المشرق، استنكر المسيحيون المشرقيون فعائلهم، ونالهم من الصليبيين مجازر كثيرة، دفعتهم للهرب والنزوح إلى قلبيريّة (كالابريا) وصقلية. حيث الصليبيين واستثماراتهم ممنوعين.
لكن في إبيريا. ادّعى القوط الغربيون أنهم أصحاب الأرض الأصليّين، وزعموا أنهم يريدون بناء دولة مسيحية شديدة النقاء. فقاموا على أساس قومي بطرد كل من يمنع تحقيق “التجانس” وفق الرؤية القوطية الكاثوليكية، حتى لو تحوّل إلى المسيحية الكاثوليكية، وحتى حين مضى على تنصّره أجيال في قرنين من الزمن.
من وُسم بالموريسكي في إبيريا القرن 16 كان مواطناً إبيرياً من حقّه البقاء والحياة في وطنه إبيريا. حتى لو خالفت معتقداته وعاداته تقاليد الدولة في عهده. لذا، فما حدث في إسپانيا القرن 16 هو جريمة إبادة جماعية فظيعة، لم يقدر العرب على نسيانها حتى بعد خمس قرون!
الصورة للرسّام الموريسكي خوان الباريخي Juan de Pareja. وُلد عبداً في أنتقيرة في إسپانيا وروى كيف استرقّ القشتاليون أهله في مالقة فمنع صك عبوديّتهم طردهم عن إبيريا. ثم وُلد خوان عبداً سنة 1606 ثم درّسه مالكه الرسم واشتغل في هذه الحرفة حتى وفاته.
في مثل اليوم 2 كانون الثاني يناير من سنة 1492 انتهى في غرناطة حكم العرب وانتقلت أسرة بنو نصر منفية إلى فاس في المغرب. وأعتب على من يلوم العثمانيّين على “سقوط غرناطة” في حين الواقع أنّ إزالة حكم المسلمين فيها كان بموجب رضى من الخلافة العبّاسيّة في القاهرة، واتّفاق مع سلطنة المماليك فيها.
في الصورة أدناه مقطع من الخطّ الزمني لأحداث الشرق الأوسط، وتظهر فيها الحرب العثمانيّة-المملوكيّة، والتي على غير ما يُعتقد، بدأت سنة 1485 وانتهت سنة 1517 بانتصار العثمانيّة وإزالة السلطنة المملوكيّة من الوجود. ونلاحظ على هذا الخطّ الزمني أهمّ التفاصيل: استيلاء المماليك الجركس على الحكم في القاهرة سنة 1382. اندلاع أوّل حرب مملوكية-عثمانية سنة 1485 والتحالف المملوكي-الإسپاني في نفس السنة. ثمّ، نهاية إمارة غرناطة النصريّة في نهاية هذه الحرب الأولى سنة 1492.
الخطّ الزمني للحرب العثمانية-المملوكيّة 1485-1517
وللردّ على التحالف المملوكي-الإسپاني، تحالفت السلطنة العثمانيّة مع إمارة النصريّين في غرناطة، التي قبلت بنشر قوّات عثمانية في غرناطة. وفي ذات الوقت سعى النصريّين للخلاص من الهيمنة القشتالية، والتحوّل عن وعود حماية مغربيّة لن تتحقّق، فتأمّلوا ضمان الاستقلال بحماية عثمانيّة. غير أنّ القوّات الإسپانيّة نجحت بإسقاط غرناطة قبل وصول القوّات العثمانيّة، التي أعاقتها القوّات البحريّة المملوكيّة وأخّرت وصولها.
هذه الخارطة هنا هي لإمارة غرناطة سنة إعلانها 1230 وقبل خسارة قرطبة وإشبيلية وبَلَنْسِيَة. وأنصحك اليوم بقراءة ثلاث من تدويناتي. الأولى في تفاصيل {حرب المماليك والعثمانيين ونهاية إمارة غرناطة} والثانية هي تدوينة {پروپگندا سقوط الأندلس} التي أتحدّث فيها باختزال عن تاريخ سقوط الأندلس كلّها. والثالثة هي تدوينة {عبد العزيز بن موسى ملك القوط الغربيّين} التي أتحدّث فيها عن پروپگندا فتح الأندلس.
ومن المهمّ أن نتذكّر أن سقوط غرناطة ما كان مجرّد سقوط حكم إسلامي في إبيريا، إنّما كان إبادة جماعية وتطهير عرقي نال مجتمعاً أوروپيّاً، انتهى بإكراه الناس على تغيير أديانها وهويّاتها الثقافيّة، وطرد الطوائف التي خالفت طائفة الحكم من بلادها. وفي منظوري، لا تختلف فعائل القشتاليّين عمّا فعله هيتلر في النصف الأوّل من القرن العشرين.
في القرن 11 عاش ابن حزم الأندلسي، وهو نبيّ الحبّ الأوروپي؛ في نظر الكثيرين من منظّري ونقّاد الأدب الأوروپي من مرحلة الثورة الصناعية.
وابن حزم هو {أَبُو مُحَمَّدْ عَلِي بْنْ أَحْمَدْ بْنْ سَعِيدْ بْنْ حَزْمِ بْنْ غَالِبِ بْنْ صَالِحِ بْنْ خَلَّفَ بْنْ مُعَدَّانِ بْنْ سُفْيَانْ بْنْ يَزِيدَ اَلْأَنْدَلُسِيُّ اَلْقُرْطُبِيُّ}. وعليّ هذا أنتج سنة 1022 كتاباً سمّاه {طوق الحمامة في الأُلفَةِ والأُلَّاف}، وفي القرن 13 تُرجم الكتاب باللّغة اللاتينية، ونُشر تحت اسم De amore libri tres أي ثلاث كتب عن الحبّ. مع إغفال اسم المؤلّف الأصلي. وصار الكتاب فعلاً بمنزلة كتابة الحبّ المقدّس.
كان كتاب De amore libri tres لابن حزم مؤثرًا في أوروپا الغربية خلال العصور الوسطى. إذ كان يُقرأ على نطاق واسع من قبل الفلاسفة واللاهوتيّين والمؤلّفين والكتّاب، وحضّت الكنائس (الجديدة) على قراءته ومناقشة محتوياته في حلَقات خاصّة، عارضتها الكنيسة الكاثوليكية التقليدية. وكان الكتاب أيضًا مؤثرًا في الأدب الرومانسي الأوروپي. حتّى تمّ اقتباس العديد من أفكار ابن حزم في الأعمال الأدبية الرومانسية، مثل Tristan und Isolde و Roman de la Rose.
بعد تَرْجَمَة الكتاب إلى اللاتينيّة أُغفل اسم المؤلّف الأصلي {ابن حزم} وتمّ تغييره إلى الموهامّيتانُس Al-Mohammetanus أي “المسلم”. هذا التغيير في الاسم كان ناتجًا عن التحيّزات الدينيّة في أوروپا الغربية خلال العصور الوسطى. إذ كان يُنظر إلى المسلمين على أنّهم أعداء للمسيحيّة، لذلك كان من غير اللائق أن يُنسب عمل إلى اسم مسلم صريح. لكن، طالمَا حاربت الكنيسة الغربية التقليدية أفكار الكتاب فكانت نسبة الكتاب إلى الموهامّيتانُس “المسلم” وسيلة لتجنّب إثارة الجدل أو الإدانة، طالمَا أنّ الكثير من الأدباء استعملوا طريقة نقد الكتاب كرسائل معكوسة لتمرير أفكاره إلى المجتمع.
ارتبط اسم الموهامّيتانُس بكتاب De amore libri tres في أوروپا الغربية خلال العصور الوسطى مع تغييب اسم ابن حزم. وظلّ هذا الاسم حتى القرن 17. إذ، اكتُشفت التَّرْجَمَةً اللاتينية الأصلية لكتاب ابن حزم وعليها اسمه في المكتبة البابوية في الفاتيكان سنة 1606. وكانت محفوظة فيها منذ القرن 13، وتمّ نسخها ثمّ نُشرت وسرعان ما أصبحت واحدة من أكثر الأعمال الأدبية شعبيّة في أوروپا الغربية. وترجمت عن اللّاتينية مرّة أخرى إلى العديد من اللّغات الأوروپية باسم “طوق الحمامة”.
سنة 1931 اكتُشفت النسخة العربية الأصلية من كتاب ابن حزم {طوق الحمامة} في مدينة فاس في المملكة المغربية. كانت المخطوطة في حالة سيئة للغاية، وجرى ترميمها ونشرها في عام 1933. ثمّ، سنة 1951 نُشرت أوّل تَرْجَمَة إلى الإنگليزية مباشرة عن العربية. النسخة العربية الأصلية من كتاب ابن حزم هي مصدر قيّم للأدب العربي والتاريخ الإسلامي. لأنّها تقدّم نظرة ثاقبة للحياة في الأندلس في القرن 11، كما أنّها تكشف عن عبقرية ابن حزم كمؤلّف وعالم.
كتاب “طوق الحمامة” مرجع هام في الأدب العربي ودراسة الحبّ. يمكن لكلّ شخص مهتم بالأدب أو الحبّ أو التاريخ الثقافي أن يجد فيه مادّة ثرية للتفكّر والاستمتاع. وكان له تأثير كبير على الأدب الأوروپي، خاصّة في العصور الوسطى وبعدها. حيث جرت ترجمته إلى العديد من اللّغات الأوروپية، بما في ذلك اللاتينية والإسپانية والفرنسية والإنگليزية.
الكتاب يتضمّن العديد من الأفكار والمبادئ التي جرت الاستفادة منها في الأدب الرومانسي الأوروپي. فقد استكشف ابن حزم العديد من الأشكال المختلفة للحبّ، وهذا أمر مشترك مع الأدب الرومانسي الذي يركّز على العلاقات العاطفية بين الأفراد. ببساطة، نشأت الفكرة الرومانسية في الحبّ استناداً على كتاب {طوق الحمامة في الأُلفَةِ والأُلَّاف} لابن حزم الأندلسي، وخرج عنها الأدب الأوروپي الرومانسي كلّه.
بل والأهم من ذلك، أعطى “طوق الحمامة” لغة وأسلوبًا للتعبير عن الحبّ والعاطفة، وهو ما كان يفتقر إليه الأدب الأوروپي في ذلك الوقت. فالعديد من مفاهيم الحبّ والغرام التي تمّ التعبير عنها في “طوق الحمامة” وجدت طريقها إلى الأدب الأوروپي، وتبقى جزءًا من الأدب الغربي حتى اليوم. ويمكن القول إنّ “طوق الحمامة” ساهم بشكل كبير في تطوّر الفكر الأوروپي، وأثّر على الطريقة التي يفكّر بها الأوروپيّون ويتحدّث بها عن الحبّ في الثقافة الغربية.
في الختام، نكتشف من قصّة “طوق الحمامة” لابن حزم التأثير العميق وبعيد المدى للحضارة العربية على الثقافة الأوروپية. ومن خلال هذا العمل، نرى كيف تمكّنت الأفكار والمفاهيم العربيّة من التأثير في التفكير الأوروپي وتشكيله، خاصّة فيمَا يتعلّق بالحبّ والرومانسية. فـ”طوق الحمامة” هو دليل حيّ على القيمة والأهمّية الثقافية للحضارة العربية، وكيف أثّرت بشكل ملموس على حركة الرومانسية في أوروپا. بواسطة الشعر العربي والنثر، تمكّن ابن حزم من إعطاء الأوروپيين لغة وأسلوبًا جديدين للتعبير عن الحبّ والعاطفة، شيء كان يفتقر إليه الأدب الأوروپي في ذلك الوقت.
ومع ذلك، فإنّ التاريخ الطويل للحضارة العربيّة في مجال التأثير على العالم الأوروپي لا يقتصر على الأدب فحسب. بل يمتدّ ليشمل العلوم، والفلسفة، والرياضيات، والفنون، في حين تستمرّ المساهمات العربية في تشكيل الثقافة الأوروپية حتى اليوم. وفي النهاية، يجب أن نذكر أنّ الحضارة العربية، مثلها مثل أيّ حضارة أخرى، تشكّل جزءًا أساسيًا من التراث الإنساني. والقصّة المحيطة بابن حزم و”طوق الحمامة” تعدّ تذكيرًا قويًّا بأنّ الثقافات والأفكار تتداخل وتتبادل التأثير، وتتجاوز الحدود الجغرافية والزمنية. ومن هذا المنطلق، يتحتّم علينا احترام وتقدير للتأثيرات المتعدّدة التي تشكّل ثقافتنا العالمية المشتركة.